عرض مشاركة واحدة
  #1 (permalink)  
قديم 21-04-2011, 05:16
الصورة الرمزية ليس بعد ..
ليس بعد .. ليس بعد .. غير متصل
كـائن
 
بداياتي : Apr 2008
الـ وطن : (كَوْكَوْ) آخر ..
المشاركات: 60
تقييم المستوى: 0
ليس بعد .. is an unknown quantity at this point
افتراضي اعتراف الأنثى المدوّي

لأنني لست شغوفة بما تلقيه الموضة حولي , كان لزاماً عليّ أن لا أشبه شقيقتي التي تكبرني بأربع سنوات , والتي راحت تتنقل بين واجهات المحلات بخفة غريبة , وبلامبالاة بابنها الوحيد الذي اصطحبته معنا للمجمع التجاري ؛ رأيت الطفل يبدي استياءه بشكل فج , وكأنه يصر بأن تتلقى أمه هذا التعبير منه , وتطلقه بعيداً عن هوسها !

في هذه الأثناء قلت لنفسي لقد مد لي هذا الطفل طوق النجاة ؛ أمسكت بذراع الصبي , وأشرت لأمه من دون أن أطلق أي كلمة نحو فمي مشيرة لها بأننا سنذهب لنأكل . لم أنتظر موافقتها , فلقد استمرت في انشغالها , ثم ابتعدت أنا والطفل عنها وتوجهنا نحو تجمع للمطاعم ومجموعة من الطاولات ينتصب على مقربة منها جهاز تلفزيون ضخم , وقد تحلق حوله العديد من الرجال , وهم يتابعون لقاء تلفزيونيا عرفت بعد حين أنه مع أحد المفكرين المعروفين جداً . اقتربت من هذه الدائرة المكتظة بالرجال , ثم سرت في صدري موجة باردة , وكدت أن أقع لأن الجميع هناك التفتوا نحوي وبادروني بنظرات شهوانية , كادت أن تتسبب في هلاكي , وبسرعة توجهت نحو إحدى الطاولات وأشرت لابن اختي بأن يجلس , رحت اتنفس بعمق وأنا أتنقل بعيني بين الجالسين . حتى وصلني صوت التلفزيون , الذي لم يكن قد وصلني قبل ذلك .
بينما كان الضيف يسترسل في الحديث , وتزداد كثافة أفكاره المتدفقة على الشاشة , أطرق الحضور حتى استكانت العقول لَما يُقال , كان الجو ممزوجاً بالصمت الرهيب , يكفي أن تلقي قطعة معدنية متناهية في الصغر , وستسمع دويها يرتج في الأجواء , الجميع كانوا ينصتون بتمعن , مشدودين للحديث الاستثنائي للضيف الذي أسبغ سحره حتى على المذيع الذي كان يحاوره ويحيك له الهجمات ؛ ما كان غريباً وملفتاً في ذلك الموقف , هو ذلك الرجل الذي كان يشغل طاولة في وسط المقهى المفتوح في المجمع التجاري الهادئ , كان منظراً غريباً بالنسبة لي , فاجأتني تعابير ذلك الرجل على نحو لم أستطع معها أن أفسر أمره المحير , قد يبدو الأمر مألوفاً وليس به ما يثير , لو كانت اللحظة غير اللحظة , والظرف غير الظرف ! , ما كان يفعله الرجل بدقة أنه كان يجر الدخان من سيجارة بدت وكأنها لعبة في يده , كانت السيجارة تلتف وتدور بين إصبعيه بخفة , وبينما كان الجميع مبهورين بما يقوله الضيف والمفكر الكبير على الشاشة , كان هذا الرجل وكأنه يعرف كل كلمة قيلت , وكل كلمة ستقال , لا بل كان غير آبه , ولكن ليس بلامبالاة الذي لا يعنيه الأمر , بل كان يتمايل مع الأفكار الملقاة , ويمتصها ثم يعيد إطلاقها مرة أخرى , ما أدهشني أنه كان يداعب فنجان قهوته ولم يكن يتنازع معه كما يفعل الآخرون , كان يضع قدماً على الآخرى غير آبه فيما يبدو فقط , ولكنه كان لا يزيح عيناه عن الشاشة إلا لينظر للبعيد وهو يجر دخان السيجارة , أو عندما يصوبهما نحو القريب عندما يرتشف قهوته . كان مرناً , كان مستكيناً كتمثال نحاسي لفيلسوف , كان سهلاً كطائرة ورقية بيضاء . ما كان يضفي عليه ميزة شكلية , نظّارته الغريبة الشكل , لكنها وبكل سحر ولا منطقية , كانت مناسبة وفي مكانها بالضبط ؛ في بعض الأحيان كان يدفعها للوراء وهو يطلق يده نحو فنجان القهوة , يرشف رشفة ثم يضم شفتيه ويعود ببصره للشاشة , أما في أحيان أخرى كان يلمس أنفه بخفة ويكمل حركة أصابعه بحيث يمررها على طرفي شاربه الشبه محلوق وينزل بها نحو لحيته الخفيفة أيضاً ؛ ما يثير في الأمر أنه كان يتفاعل بلطف مع بعض الكلمات التي يبدو وكأنها لا تعني شيئاً لكل الحضور , لا بل أكثر من ذلك ربما لم تكن تعني شيئاً لقائلها خلف الشاشة أيضاً , لكنه كان يهز رأسه بشكل خفي , ويومئ أحياناً كما وأنه يقول بحركة من رأسه : هذه فكرة رائعة وصائبة .

شارف البرنامج على الانتهاء , بدا الرجل وكأنه اكتشف ذلك مبكراً قبل الجميع , فلقد استل سيجارة , ولم يعد ينظر للشاشة , ختم المذيع الحوار , وشكر الضيف . بدأ الرجل يتلفت بزاوية ضيقة وبدا وكأنه سينظر للوراء , كاد قلبي أن يقف , نظرت بشكل لا إرادي لابن أختي الذي جئت به ليأكل وجبة خفيفة . هاهو يوشك على أن يفعلها . التفت الرجل فالتقت عينانا , شعرت بأن الزمن قد توقف مع قلبي , رأيته وكأنني كنت أتأمل وجهه منذ آلاف السنين , لمعت بقعة ضوء حادة في طرف إحدى عدسات نظارته الساحرة , فحجبت الرؤيا تماماً .
____________________________________

تكلم لأراك ..
رد مع اقتباس