** 1 **
في هذه الليلة , كان المطعم مزدحماًً على غير عادة ! , اختلطت الأصوات ببعضها وارتفعت حرارة المكان ؛ الصالة البالغة الفخامة , ذات الطاولات الأنيقة , والحيطان الرمادية المائلة للاصفرار , كانت تضفي جواً ساحراً بانعكاس الأضواء عليها . المكان مليء بالنساء المتأنقات ؛ كانت رائحة العطور المنتشرة في المكان تحيله لحديقة في عالم آخر .. وكانت الضحكات تعلوا وتخفت , والأحاديث الجانبية تشير لاندماج الجميع في حالة من الحيوية .
فجأة ظهر رجل غريب بالباب ! , كان دخوله يشبه قنبلة انفجرت في المكان !! , حيث عم الصمت بشكل مثير في أرجاء المكان .. والتفتت الرقاب كلها - تقريباً - لتلمح هذا الوافد ! .
كان رجلاً ممتلئا , أقرب للقصر منه إلى الطول , يرتدي قميصاً أبيضاً بأكمام طويلة مفتوحة , وبنطالاً مثبتاً بواسطة حمّالات !! , يظهر على محياه التعب , ربما بسبب اللحية الخفيفة الغير مشذبة , والشعيرات العشوائية في منطقة الشارب !! .
ملأ الرجل عينيه بنظرة شاسعة وبلهاء في الحضور , تأمل المكان , تأمل النظرات التي كادت أن تخترق جسده كالرصاص .. وبسرعة التفت للموظف المذهول بجانبه , والمتكيء على ما يشبه منبر أساتذة الجامعة في قاعات الدرس , وقال :
- أريد طاولة لو سمحت
رد الموظف الذي أظهر امتعاضاً ولا مبالاة :
- أسف سيدي , جميع الطاولات مشغولة .
باغته الرجل بسؤال وهو يلقي نظرة على المكان :
- وماذا عن بعض هذه الطاولات الفارغة ؟
- إنها محجوزة يا سيدي . رد الموظف ثم أضاف باستعلاء :
- كما وأن لهذا المكان بعض الخصوصية والتقاليد ....
قاطعه الرجل وبدا غير مبالٍ لما سمعه , متنقلاً بنظره في زوايا المكان :
- ماذا تقصد ببعض الخصوصية ؟ أي تقاليد التي تتحدث عنها ؟
كان أكثر الجالسين - تقريبا - يصغون لهذا الحوار ولو بدا أن البعض وكأنه يخفي اهتمامه , إذ أن بعض المتحومين حول الطاولات المستديرة , والمتأنقين إلى درجة تكاد تكون متكلفة , كانوا يتحدثون مع من بجانبهم وآذانهم وبعض نظراتهم مع الحوار الدائر عند مدخل المطعم .
أحد الجالسين كان رجلاً أسوداً - بهيئة وقورة , وفي أواخر العقد الخامس ربما - أثاره في باديء الأمر هذا الرجل الذي هوى كنجم في وسط المكان , والأحداث ؛ ولكنه صرف اهتمامه بسرعة - لطاولته التي كانت تضم زوجته وابنتاه الشابتين - وكأن شيئاً لم يحدث تلك الليلة , أو هكذا بدا الأمر !
عاد الرجل ورفع صوته هذه المرة , وسأل الموظف المضطرب :
- ماذا عن الخصوصية ؟ أين ذهبت التقاليد ؟ لماذا هذه النظرة البلهاء التي ترمقني بها .. وأين ذهب لسانك ؟ لماذا لا تتحدث ؟
رد الموظف وعلامات الخوف بادية عليه :
- لا أقصد شيئاً سيدي , ولكن ربما لا تملك ...
قاطعه الرجل بحدة :
- لا أملك ماذا ؟ المال ؟ السلطة ؟ الكفاءة ؟ .....
وراح يعدد الصيغ بتمكن وبغضب ممزوج بالسخرية , ما أثار في المكان مشاعر الدهشة , وفجّر في النفوس التوتر .
نظر الموظف وهو يتلقى هذه الكلمات الضخمة , نحو أحد الجالسين على طاولة في جانب الصالة , الذي بدوره أومأ برأسه دلالة القبول ؛ كان هذا الرجل - الذي بدا وكأنه صاحب المطعم - يشارك عدداً من الرجال المتأنقين والنساء الفاتنات طاولة مميزة وخاصة , سيما وأنها كانت تحتل أفضل زاوية في المطعم , وكان البعض من المتواجدين في المكان , كلما أراد أن يغادر طاولته لأي سبب , كان يلقي تحية خاضعة , واحتراماً مفتعلا .
ابتسم الموظف في وجه الرجل الذي كاد أن ينهي لتوه , محاضرة متخمة بالمصطلحات والتعابير الرنانة , وأشار له بالتقدم , ورافقه بين الحضور , نحو طاولة صغيرة في طرف الصالة , وسحب له الموظف أحد الكرسيين التي كانت حول الطاولة , ولكن الرجل نظر للطاولة , ثم أدار رأسه نحو منتصف الصالة , فوقعت عيناه على طاولة في الوسط , بين حشد الجالسين ؛ كانت كبيرة ويحيط بها العديد من الكراسي ,وكانت كما لو هُيئت لأهم شخصية في المدينة , وأشار للموظف بإصبعه نحوها , وقال :
- أريد تلك الطاولة ..
انتفض الموظف
- ولكن ...
قالها الموظف وهو ينظر لذات الشخص الذي كان يجلس إلى الطاولة المميزة تلك , الذي كان يراقب الوضع من بعيد , حيث أشار بالإيجاب هذه المرة أيضاً . تبرم الموظف , وبدأ يجر خطواته نحو الطاولة المنشودة , وهو يقول :
- تفضل يا سيدي .. ستحظى بالجلوس على أفضل طاولة لدينا ..
وأضاف :
- هذه الطاولة لأهم شخصيات المدينة ..
وراح يعدد مميزات هذه الطاولة , بينما الرجل يمشي وراءه متبختراً , ممسكاً بحمالتي بنطاله , وهو يوزع نظراته الباردة , وابتساماته الساخرة , على الحضور الذين كانوا يتابعون هذا الحدث المثير , والذي أذهلهم عما كانوا فيه من حراك .
يتبع ....