الموضوع: طبق لشخصين
عرض مشاركة واحدة
  #5 (permalink)  
قديم 29-07-2009, 19:59
الصورة الرمزية ليس بعد ..
ليس بعد .. ليس بعد .. غير متصل
كـائن
 
بداياتي : Apr 2008
الـ وطن : (كَوْكَوْ) آخر ..
المشاركات: 60
تقييم المستوى: 0
ليس بعد .. is an unknown quantity at this point
افتراضي رد: طبق لشخصين

** 2 **

جر الموظف المقعد للخلف بيد واحدة , ثم لاذ بالرحيل .. تقدم الرجل نحو الكرسي ووضع يده على حافته , وبالتفاتة مفعمة بالشعور , تنبه للموسيقى الخافتة التي تنتشر في المكان كالدفء ؛ راح الرجل يتمايل مع موسيقى الجاز الساحرة , وفي لحظات , تناغم مع الدفق اللحني , كان لايزال واقفاً بجوار الكرسي , وقد رفع يده عنه .. وبانحناءات متناسقة تشبه مفردات النوتة الموسيقية , استقر جالساً على الكرسي , يهدهد برأسه ويدندن النغم . بعد لحظات , توقفت الموسيقى ؛ وأخذ لغط الحوارات يظهر مرة أخرى . استكان الرجل الذي بدا وكأنه وصل للتو من رحلة شاقة ؛ غرق في حالة شرود منطقية !!!

في تلك الأثناء راحت الأصوات من حوله تهبط , وتضيع في توحد الذات الخفي ؛ مضت دقائق معدودة , كان الرجل خلالها يبحر في أرجاء الروح , بينما أخذت الأعين حوله دور التأمل والتساؤل ! بدأ البعض في طرح الأسئلة , حان الآن موعد البحث عن إجابات , والتفكر في حال هذا الكائن الذي احتل المركز !!!
ولكن هذه الرغبات من الحضور , لم تعدو عن كونها فضولاً اعتياديا تجاه ما هو غريب ومثير .

ظل الرجل حاضراً بجسده غائباً بكامل الوعي .. حتى انبعثت الموسيقى من جديد ؛ كانت معزوفة كلاسيكية هذه المرة , تحرر على إثرها الرجل وأمسك بشوكة كانت على الطاولة , وقرع بها على الطبق الفارغ أمامه , فأحدثت ضجة حادة , تكفلت باسترعاء انتباه كل الموجودين في الصالة !!
أسرع أحد أفراد طاقم التقديم في المطعم نحو الرجل - تلافياً لأي قارعة مماثلة – وانتصب بجانب الرجل يحمل دفتراً صغيراً , ووضع بين إصبعيه قلما , وبادر الرجل :

- ماذا تحب أن تأكل سيدي ؟

تأمل الرجل في وجه النادل , رأى شاباً في مقتبل العمر , تبدو على محياه علامات الارتباك والتوتر , باغته بالسؤال :

- ماذا يأكل هؤلاء الناس ؟

صمت النادل لثوان , أطلق خلالها نظرة عامة على المكان , وأجاب :

- إنهم يتناولون طعامهم ياسيدي ..

شعر النادل بأن إجابته لم تكن موفقة , فأضاف :

- السمك .. اللحم .. السلطة .. , ثم تلكك قليلاً وزاد :
- والخبز بالطبع سيدي .

نظر الرجل للنادل نظرة شفقة , اخترقت فؤاده ؛ فتزعزع الشاب وراح يهذي ببعض الكلمات الغير مفهومة , وأخذ يتلفت ويمسح العرق عن جبهته ورقبته .. في هذه الأثناء تنبه الموظف – المتكيء على منبره لدى المدخل – وتوجه نحو الطاولة يمشي بخيلاء , وبحلته السوداء الأنيقة تابع الخطى وكأنه متجه نحو أنثى حسناء , ليدعوها للرقص ؛ أشار للنادل المرتبك بيده دلالة الانصراف , بعد أن استل من يده الدفتر الصغير والقلم , ثم عبأ رئتاه بشهيق طويل , وبادر بكلمات بطيئة :

- ماذا تحب أن تأكل سيدي ؟ أنا هنا في خدمتك .. لدينا العديد من الأطباق المميزة .. نعد طبق اللحم المشوي مع صلصة الرمان , ونعد مخبوز السلمون بالقرفة .. مع بعض البطاطا المهروسة , أما التحلية , فنحن نصنع أفخر طبق حلوى فرنسي , من الخبز المحمص وقطع التفاح , وقليل من عسل النحل , نسميه هنا ( فوضى ) ..

رد عليه الرجل ببرود وازدراء , وهو يرمقه بنظرة جليدية :

- نعم .. هي فوضى حقاً . وأضاف بعد تأفف هاديء :
- ما هو عملك هنا بالضبط ؟

أجاب الموظف بفرح واضح , وأشار بكفه نحو صدره :

- أنا مدير الصالة يا سيدي ..

- إذن لست نادلاً ؟ , قال الرجل

- لست نادلاً بالطبع ياسيدي .. ولكنني بخدمتك , تابع الموظف

تحفز الرجل وراح يعدل من وضعية أكمامه المفتوحة , وأنهال على مدير الصلة بكلمات جافة :

- هل تعلم أن عمل النادل له بعض الخصوصية ؟ والتقاليد ؟ ... وربما أنت لا تملك الكفاءة .. ولا المهارة ...

وراح يعدد المصطلحات التي كانت تقع على مدير الصالة كالقذائف , حتى أحالته – الكلمات – فريسة مسلوبة الإرادة , بين فكي سبع لا يرحم .


تطور الأمر , تنبه الجميع واستفاقوا من اندماجهم في الحديث والأكل , تحولت الصالة لقاعة عرض , الكل مدعو للمشاهدة والفرجة , علت أصوات الاستهجان والاستغراب , سُمع في المكان أحاديث من مثل : ( مالذي يحدث ؟ .. مسكين مدير الصالة .. ماذا سيحدث أيضاً.. من هذا الرجل الغريب ؟ ) وعمت الفوضى !!

من بين الطاولات المتناثرة , انبعث أحدهم مسرعاً من جهة الطاولة المتميزة ؛ تلك التي قررت وافقت على وجود هذا الرجل الغريب وسط المكان . انتصب الشاب الطويل أمام الطاولة كنخلة , ودفع مدير الصالة بكلتا يديه بقوة , وانحنى بوجهه الحاد الملامح نحو الرجل , وابتسم بدبلوماسية محترفة :

- سعداء بوجودك أيها الرجل النبيل .. اعتقد أن سيدي سيبدأ بالحساء .. شوربة العدس بالتحديد مع بعض الليمون الحامض .. وطبعاً لا ننسى خبز ( الباغيت ) اللذيذ ..

خط هذا النادل – الذي حل بالمكان لينقذ الجميع – على دفتره بسرعة , وأدار جسده بغية الانصراف , كما ظهر فجأة ! . حيث عاد الهدوء للصالة , وشعر الجميع أن الموقف قد تم احتواءه .. ولكن الرجل أبى إلاّ أن ينهي المشهد على طريقته .. فباغت النادل بسؤال مألوف , ولكن بنبرة أحدّ من السكين , وبفجائية عميقة :

- ما اسمك أيها الفتى ؟

عاد النادل وواجه الرجل , وأجاب بمكر :

- علاّم ياسيدي .. علاّم ..

ابتسم الرجل وضيّق حدقة أحدى عينيه .. وقال :

- علاّم ... ؟ , وأضاف :
- هل تعلم يا علاّم .. أن علاّم رجل ذكي جداً ؟

ابتسم علاّم وشعر بالإطراء ... ولكن الرجل استدرك :

- وخبيث .


في تلك اللحظة دوّت ضحكة أنثوية ساذجة , كان مصدرها الطاولة التي تقع خلف الرجل , الذي نظر خلفه ؛ كانت شابةً لطيفة بوجه طفولي , ترتدي ثوباً ابيضاً مرقطاً بقليل من الأزرق الفاتح , - ويشاركها الطاولة , رهطٌ من المتصلبين وكأنهم خرجوا للتو من قبورهم - نظر إليها الرجل وبادرها بتعبير محيّر , ما ألقى في نفس الفتاة الرعب , ودفعها للعودة لمحيط طاولتها .
كان علاّم قد اختفى تماماً عن الأنظار ؛ عاد الرجل لطقسه بعد أن ألقى نظرة واسعة على المكان , وضاع الجميع في شأنه , وارتفع صوت الموسيقى .



بدا المكان في تلك اللحظات التي أعقبت الضحكة الشاردة , واختفاء علاّم فجأة , كما لو أن الأحداث تدور فيه بشكل آلي .. رائحة السيجار الفاخر تعبق في الأجواء , وصوت الملاعق والسكاكين يؤثث جو الصالة بشيء من النمطية , كانت الحركة الدائرة في المطعم متناغمة إلى حد السحر , صوت الكمان الأنيق يخلق جواً من الألفة , والنقرات على مفاتيح البيانو تدعم بنزقها روح الثورة الساكنة التي تفيض في المساحات الخالية بين الطاولات , انجرف الحراك نحو اللامعقول , وكأن الحياة ليس لها وجود في غير هذا المكان , ومدير الصالة يوزع الابتسامات بسخاء , وفي كل لحظة يتحاشى نادل منطلق بخفة , الاصطدام بمهارة عالية , بين الحشود .
توافد الكثير من الرجال المرموقي الهيئة على الطاولة المميزة في زاوية المطعم , راحوا يدخنون السيجار ويربتون على الأكتاف , تعلوا ضحكاتهم وتتطرف ؛ النساء بدأن في غفلة من الرجال يتحاورن في شؤونهن الخاصة , تظهر ابتسامات خجلة هنا , وتخفت هناك . المطعم الفخم في وسط المدينة كان اختصاراً للإنسان .


عاد علاّم بالحساء كأنه حصان ابيض رشيق , وضع الطبق على الطاولة , وباغت الرجل بسؤال :

- ماذا عن اسمك يا سيدي ؟

أجاب الرجل بسرعة خاطفة وبتمكن :

- أي اسمٍ تريد أن تعرف يا علاّم ؟ , وهو يرمقه بنظره من رأس مائل .

- اسمك الليلة يا سيدي . رد علاّم

- إدريس يا علاّم .. إدريس هو اسمي الليلة ..

رد علاّم كشيطان حاقد :

- ولكن إدريس رجل أسود , وأعرج ياسيدي !

في هذه اللحظة التفت الرجل بشكل خاطف وفي جزء من الثانية عن يمينه , كان الرجل الأسود الذي يشارك زوجته وابنتيه الطاولة في طرف المطعم , يتأمله بتمعن عميق !
التقت العينان لثوان , بدت كسنة ... !!!




يتبع ...
____________________________________

تكلم لأراك ..

التعديل الأخير تم بواسطة فال ; 24-08-2009 الساعة 13:10 سبب آخر: كمان رمضان كريم
رد مع اقتباس