الموضوع: طبق لشخصين
عرض مشاركة واحدة
  #12 (permalink)  
قديم 24-08-2009, 04:55
الصورة الرمزية ليس بعد ..
ليس بعد .. ليس بعد .. غير متصل
كـائن
 
بداياتي : Apr 2008
الـ وطن : (كَوْكَوْ) آخر ..
المشاركات: 60
تقييم المستوى: 0
ليس بعد .. is an unknown quantity at this point
افتراضي رد: طبق لشخصين

** 3 **




تلاشت تفاصيل المكان ! , بدا وكأنه غير مأهول لوهلة , عادت الأصوات لمنابعها , وخجلت الحركة عن الظهور .. في هذه الأثناء , لاذ إدريس لصمتٍ مختلف , صمت أطلق دويّه في زوايا الوجود ؛ لكن هذا الدويّ الفارق , لم يؤذ أحداً .. كان بمثابة جرعة زائدة من المخدر , الذي أحال النفوس , للحظة سلام مع الذات , لموتٍ بطيء , لوخزة خفية ! في حقيقة الأمر لم يتنبه أحد !! .


في مكان غير بعيد عن طاولة إدريس , دب القلق في طاولة الرجل ذو البشرة السوداء , التي ضمت عائلته ؛ بالإضافة لزوجته الصارمة ذات الملامح الحادة , تجلس فتاتين بريئتين , تفجّر الفضول لدى إحداهن , فأطلقت نظرة باتجاه والدها تحمل صيغة سؤال !! , احتفظت الفتاة بفترة صمت مناسبة .. ثم قالت :


- ما بال أبي ؟؟ ... أمي !

أطلقت الأم انفعال الانتباه , كما لو أن ابنتها الحائرة أيقظتها من سبات ؛ لم تنظر الأم لزوجها التائه .. أشارت للفتاة بأن تصمت , واكتفت بذلك ..

كانت الأحداث في الصالة تسير على هذا النحو !!

من بين أنقاض الصمت المطبق , انطلقت النغمة الموسيقية , تعلن انبعاث الحياة في المكان من جديد , أخذت أمواج اللحن الفرح , توقظ المتواجدين من غيبوبتهم واحداً تلو الآخر , دب النشاط في المكان , سُمع دوي الأطباق مرة أخرى , وسُمح للضحكات بأن تسافر في أرجاء الصالة , وشعر البعض برغبة في الرقص .. البعض الآخر أراد لو أنه يقفز , يهلل , يتمايل ؛ ولم يمض وقت طويل حتى تجرأ أحدهم ! ؛ هذه المرة كان الحاضر الجديد , أحد الجالسين على تلك الطاولة المميزة في المكان البارز والمؤثر ..
وقف الرجل الطويل حليق اللحية , والذي كان يرتدي حلة رمادية باذخة وخطب في الجميع :

- أيها السيدات والسادة .. هنيئاً لكم هذه اللحظات النادرة والثمينة , التي تقضونها في هذا المطعم الساحر ..
إنكم يا سادة جديرون بهذه المتعة .. والامتياز .. تستحقون هذه الحفاوة , والاهتمام .. أريد في هذه اللحظة أن أحيي مضيفنا , وصاحب هذا المكان المدهش .

صمت الرجل قليلاً وهو ينظر للرجل الممتلئ الذي أمامه على الطاولة , بالشعر المفروق على الجانب وأكمل :

- أريد أن أحيي بحفاوة بالغة, السيد نجيب منصور مالك هذا المطعم , والسبب في متعتكم هذه الليلة .

صفق الجميع , ووقف البعض . تعالت المدائح واشتعل المكان ؛ كان إدريس مثبتاً نظره في مكان بعيد ومجهول !! ؛ لم يكن غائباً عن هذه الضجة , ولكن كان بعيداً وينصت من بعيد .
الرجل ذو البشرة السوداء في مكان غير بعيد , كان يتنقل بنظراته في الوجوه بشفقة ودهشة . الفتاتان البريئتان ارتسمت على شفاههن بسمة .. الأم الصارمة كانت تجامل بثقل . وحده علاّم كان يتكئ على باب المطبخ مائلاً بجسده على حافته .. ويفرك ذقنه وهو ينظر بتمعن , وسخرية ! , ظل على هذه الهيئة يرقب المكان والوجوه , حتى لمعت عيناه وانتصب من ميله . أسرع لوسط الصالة وسحب كرسياً في غمرة الجو العاصف , وجلس بالقرب من إدريس ؛ الذي اعتدل في جلسته , وشبك كفيه ببعضهما على الطاولة ونظر لعلاّم يسأله بعينيه , وكأنه يقول : ( مالذي خطر ببالك الآن يا علاّم ؟؟؟ ) ؛ تحرر إدريس من غيابه القصير , وسأل باهتمام وفكاهة :

- ماذا يا علاّم ؟؟ أخبرني بسرعة .

تأهب علاّم وقضى وقتاً يمهد لِما سيقوله .. اقترب من أذن إدريس وهو ينظر باتجاه الصالة , وهمس :

- هل تحب الكمان يا سيدي ؟

أجاب إدريس بلهفة .. :

- نعم أحبه .. أعشق أوتاره , وجنون موسيقاه ..

انتفض علاّم وكأن أفعى لدغته .. وانسرق نحو المطبخ كثعلب رشيق .. كان الهدوء النسبي قد عاد للصالة , نجيب منصور – صاحب المطعم والمُحتفى به قبل دقائق – بدا منتشياً وفي قمة زهوه , كان ذلك جلياً من الابتسامات الذي راح يمنحها بسخاء في أركان المطعم , بل لم يكتف بذلك , فقد قام من مكانه وتنقل بين الطاولات يلقي تحية هنا , وأمنيةً بسهرة رائعة هناك ؛
مدير الصالة تطوع بدوره ورافق نجيب لبعض الطاولات , وهو يلقي ضحكات بلا معنى , ممسكاً إحدى يديه بالأخرى خلف ظهره , تابع الاثنان هذا التنقل بين الطاولات حتى أفضى بهم لطاولة الرجل الأسود وعائلته , تلبست نجيب حالة هدوء ووقار , وأبدى المزيد من الاحترام .. ثم انثنى بقامته قليلاً , هم بالحديث ولكن الرجل الوقور سبقه :

- كل شيء جميل في هذه الليلة يا سيد نجيب .. كل شيء على ما يرام .. هذه الليلة زاهية وتعد بالكثير .

نظر نجيب إلى العائلة بتعبير الخجل والتقدير , ابتسمت الزوجة وأطلقت الفتاتان مشاعر السرور , كان مدير الصالة يتنقل ببصره في العائلة , وفي نجيب الذي مد يده للرجل يصافحه , الذي بدوره وقف , فشد نجيب على قبضته بكفه الأخرى .. وقال :

- يسعدنا تواجدك معنا هنا يا سيد بكري .

غادر في حينها نجيب مسرعاً نحو طاولته . جلس السيد بكري على مقعده , وأخذ نفساً عميقاً . مدير الصالة تاه بين هذه المشاعر الخاصة , شعر بوحدته في زحمة المكان , ثم غادر نحو الفراغ ....




يتبع
____________________________________

تكلم لأراك ..
رد مع اقتباس