عرض مشاركة واحدة
  #9 (permalink)  
قديم 15-03-2010, 23:45
الصورة الرمزية كاتب عمومي
كاتب عمومي كاتب عمومي غير متصل
كلما فهمت تعبت !
 
بداياتي : Aug 2009
الـ وطن : الرياض
المشاركات: 197
تقييم المستوى: 0
كاتب عمومي is an unknown quantity at this point
افتراضي رد: مليحان ومرعى الخرابيط

.
على بعد كيلومتر تقريبا من واحة مريخة ، وفي المنطقة التي تتلاقى فيها عدد من التلال ، ثم بمسافة صغيرة ،تتفرع العديد من الأودية ، حيث تنبسط الأرض انبساطا كاملا حتى كأنها منصة كبيرة ! توقف مليحان شامخا على أحد التلال وكأنه تمثال يتحدى موجات الهواء المتدافعة ، أما الحلال فقد انتشر على مد بصره ، بتلك المنطقة المنبسطة .
ثوبه القصير ، المرقع ، المليء بآثار الغبار ، ووسخ الأغنام . قطعة القماش التي يلفها على وجهه ، ويحرص أن يربطها تحت ذقنه . نعلاه الباليتان ، والعصا الرقيقة التي يزمها بين أصابعه . لون وجهه القريب من لون الصخر . بدا كل هذا وكأنه على موعد مع نزوح الشمس .
وضع يده على خده ، ثم رفع عنقه لأعلى درجة ممكنة ، وبدأ ينشد بنبرة عالية جدا أشبه بالعويل ، تناقلت الرياح صوته بين الأودية ، كل الأحداث المتوقعة والغير متوقعة ، استعرضها في هذا الغناء الأشبه بالنشيج . ( وهبه) في تلك اللحظة بالذات ، كانت تركض في اتجاهات مختلفة ، و بسرعة أكبر من المعروف عنها . بدت وكأنها تشارك مليحان هذا الفلكلور العريق .
البدايات الفاشلة أقسى ما يمر به الإنسان . من يصدق أن البداية المحطمة هي الدافع للإنجاز والنجاح ؟ من يسوق هذا الوهم بين الناس؟ يتخيل كمية الازدراء التي سيحظى بها من جديد بين قبيلته ، وكم سيتسلى الرعاة بفشله ، الرعاة ، آآه .. رفقاء المهنة . الوحوش التي تنتظر لحظة سقوطك لتنقض عليك دون شفقة . ( مليحان ) لا يفهم هذا كله ، إنه غارق في لحظة حزن . ولحظة يأس . ولا يعرف كيف سيكون مصيره بعد أن يفقد مهنة الرعي؟!
ازدادت ظلمة السماء . وتوارت الشمس خلف الرمال . ومازال مليحان هادر في أهازيجه !
بدا على القطعان الحيرة والخوف ، نتيجة بقائها في هذه البقعة حتى هذه الساعة ، إذ أنه في مثل هذا الوقت بالضبط . من المفترض وصولها للموقع المعد لها في مرعى الخرابيط .
نباح ، استلقى يائسا على الأرض . ومد لسانه وكأنه يسخر من كل الآخرين من حوله . أما وهبه فوقفت أمام مليحان ، كتلميذ مطيع أمام معلمه . كانت ترغب إقناعه بالتحرك ، أو تود أن تفهم هل يرغب من القطعان أن يمضوا بقية الوقت في هذا المكان؟!
وبطريقة مفاجئة ، وبعيدة عن التدرج ، أنهى مليحان هذا النشيد ، وضم شفتيه . استدار أخيرا باتجاه الواحة ثم بدأ المشي دون أن يشير إلى ( الحلال ) بأي حركة ، ودون أن يوجه لها أي أمر . بدوره نباح قفز خلف صديقه . وصاح في القطعان بقوة والتي انطلقت هي الأخرى بسرعة نحو طريقها المعهود .
الذين كلفهم الشيخ هزاع بالبحث عن مليحان والحلال . عادوا الى الشيخ بشكل متتابع كل منهم يبشر الشيخ بوصول مليحان أولا . وأكدوا جميعا أنهم رأوا مليحان عن مسافة بعيدة في الظلام ، وهو يتقدم القطعان . وأنهم حسب توجيهات الشيخ لم يقتربوا منه ولم يكلموه ، كما أنهم لم يحددوا هيئته أو ملامحه بدقة نتيجة الظلام الدامس .
قال كميخ في أسلوب مليء بالسخرية والاستهزاء :
(( أول مره نشوف راعي يمشي قدام الغنم مايمشي وراها . ياناس الولد مايسرح مع ثنتين نم الغنم )).
رد صلبوخ محاولا ايقاف ما يمكن أن يتطور اليه الحديث :
(( الزموا السكوت ياالطيبين ، الشيخ هزاع كله ولا الحلال .. ما يعرف يمه ارحميني . ولكل شي علاج وآخر العلاج الكي ))
ازداد تجمع الرجال عند الطرف الذي ينتظر دخول مليحان منه إلى المرعى . وكانت دقائق الترقب يتخللها العديد من الشتائم والنزق . وأحيانا يسمع ضحكة هنا وهناك ، وربما تقليد بعض الحركات التي يتوقع أن تصدر من مليحان عند دخول الواحة . قيل أن حامد اللهلوب الذي يعرف بأنه فنان القبيلة ووصاحب الأشعار الطويلة والمقامات الرنانة والعازف الماهر على الربابة ، كتب عشرة أبيات في ذلك الموقف وغناها لمشايخ القبائل ، بل وحملها لكثير من المراعي المجاورة .وقيل أنه شوهد وهو يغنيها للشيخ خماش ، شيخ مشايخ حصاة المطاعيس . الذي تأثر بها تأثرا بالغا . وقيل أن الأخير بكى بكاء مرا . عند البيتين السابع والثامن . وتذكر ابنه الذي قتل في احد الغزوات وتم تقطيعه وتوزيع أوصاله إلى كلاب الصيد!
كانت الجموع التي تنتظر قدومه ، تتوقع من مليحان تصرفات كالعادة غريبة وطائشة . لكن أحدا لم يكن يخطر له على بال إطلاقا ,. أن يرى مليحان يتقدم القطعان ، ويدخل عليهم عريانا دون أي قطعه على جسده !!
دخل على القوم وهو يسير بخطوات مليئة بالثقة والتحدي ، كان أشبه بعسكري يسير في كتيبة مقاتلة ، كانت العصا تحت ابطه الأيمن ، أما الخرقة التي يتلثم بها ، فقد لفها على رأسه وركز بين طياتها نبته رقيقة طويلة.
الذين حضروا هذا الموقف ، وشاهدوا مليحان بهذا الوضع المخجل . لم يتمكنوا من تصديق ما يحدث أمام أعينهم لولا أن مليحان عندما تقدم بخطواته الطويلة ، حتى توسط الجموع ، انطلق لسانه بصوت جهوري وقال :
(( هذا مليحان قدامكم زي ما خلقه ربي ، والليلة أبيكم تعرفون اني آدمي من لحم ودم . قلت لنفسي ياولد لا يكون ربعك يحسبونك قطعة قماش ولا بهيمة ! هاه شايفين صدري ، وسيقاني .. وهاذي بعد الكرشة ))
تقول ( شيهانه ) أنها في هذه اللحظة بالذات شعرت بغثيان فظيع . فالمنظر كان مقززا لدرجة لا يمكن وصفها .
قيل أن مليحان في تلك الليلة ألقى على الناس ، أشبه ما يكون بخطبة عصماء . وبعد أن صخب الحاضرون . وهاجوا وماجوا ، وبعد أن ألقوا عليه بعض الأحذية . وبصقوا وشتموا ، وصبوا التراب على راسه ووجهه . هدأوا قليلا ، ثم بدأ يصغون لكلماته . والغريب أن مليحان لم يكن يتوقف عن الكلام حتى في اللحظات التي يتعرض فيها للركل و الاعتداء . بل كان يقاومهم بصوته الجهوري الحاسم :
(( مليحان اليوم عريان ، وراح يبقى عريان الين يلاقي ربه ! المهم تعرفون انكم صرتم أقرب للبهايم ما يتستر عنها . لكم عيون ما تشوفون بيها ، ولكم قلوب ما تحسون فيها .. أنتم اليوم في عيوني حجاره ، كل واحد فيكم حجر .. شيخكم هزاع حجر كبير وطويل ))
ولما بدأوا يصغون أكثر ، أخذ يسير بينهم موزعا حركات يديه ، ونظرات وجهه للجميع ، كان يلقي كلماته بطريقة مؤثرة جدا ،وصوت حاد حتى أن أحدا لم يجرؤ على مقاطعته بعد ذلك ، تنحنح بقوة وسعل مرتين ثم قال :
(( مليحان يشتغل في لم الحطب .. قالوا ما ينفع ، مليحان يحلب الناقة ، قالوا ايديه وسخه وبطونا وجعانه ! .. مليحان ينام في البيت قالوا صاير حرمه وأمه توكله .. مليحان يرعى الغنم .. قالوا بضيع الحلال .. أنتم ما عندكم حكاية غير مليحان ، كل رجال تلعن ثواه حرمته بالدار يخرج يوسع صدره في الكلام عن مليحان .. كل من يدعس خشمه شيخه يتسلى في ظهر مليحان ؟ ..))
ثم مسح الزبد الذي تراكم حول شفتيه وأكمل :
(( من اليوم ورايح .. مثل ما خيستوا سيرتي بين الخلايق ، والله العظيم لخليكم تكرهون الطلعة من دياركم ، وأنزل اللي في بطني عند تجمع النسوان في السقايه .. وأصير لعنة ما تسلمون منها .. وما عندي شي أخسره .. أهم شي انتم تخسرون راحة البال ..))
عم الصمت ، وتلقى الحاضرون الكلمات الأخيرة مثل صفعات متتالية ، كان يدور في أذهانهم فكرة واحدة ، حضرت في وقت واحد . (( فعلا لو فعل مليحان ما يهدد به كيف يمكن أن تكون الحياة في مرعى الخرابيط وفي الواحة بأكملها؟؟ ))
في هذه الأثناء وصلت (( أمي وطفه )) تشق الصفوف وتسير بخطوات متثاقلة ، مستعينة بعصا غليظة . قالت وهي تدق الأرض بعصاها :
- البس هدومك ياولد .. عندي كلام . اخلص .
لكن مليحان لم يكن يثنيه عن موقفه أي شيء خصوصا أمام تجمع كهذا اللي يلتف حوله . عاد الصخب من جديد وانتشر الصراخ مرة أخرى . اضطرت أمي وطفه أن تدق الأرض بقوة أكبر وتصرخ :
- هيه .. هيه .. اسمعوا لا بارك الله فيكم .. اسمعوا يا الوذرين ..
ساد الصمت مرة أخرى وكأن لا أحد بالمكان . حينها قالت :
- اللي يظن ولدي مجنون ما بعد عرف شي .. وانتم تخلون الحجر ينطق ، والبعير يهيج .. ماتخافون الله ، قوتكم على الضعيف أما اللي يهين شواربكم ما تقولون إلا تم تم .. حسبي الله ونعم الوكيل .. ))
ثم وجهت كلامها لمليحان بنبرة حانية هادئة :
(( ياولدي يامليحان .. البس هدومك .. واذا ما بتلبسها الحين .. انا في الدار تعال في الوقت اللي تحب ..)) ثم استدارت ومضت وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة ..

تعددت الروايات حول ما حصل بعد تلك الليلة الصاخبة . فهناك من قال أن مليحان نفذ تهديده ، وبدأ بمضايقة المارة في أرجاء الواحة ، وبعد أن ضاق به الجميع ولم تفد معه كل العقوبات والجلد والتخويف ، اجتمع أعيان القبيلة ، وتداولوا وتناقشوا ، ثم قرروا أن يتم القبض عليه وتقييده وعصب عينيه ثم تحميله في إحدى القوافل المهاجرة إلى الشمال أو الجنوب .. ليقوم الحراس بعد ذلك بإنزاله عند أبعد منطقة عن واحة المريخة !
هناك من قال أن مليحان انصاع لطلب أمي وطفه ، لكنه لم يرتدي ملابسه على الفور . بل جلس ينشد طوال تلك الليلة عريانا ، ولما بزغ نور الفجر تغوط أمام من بقي من أهل المرعى ، ثم ارتدى ملابسه وعاد لدار أمي وطفه . حيث اغتسل هناك وطلب الأكل ثم التهمه بشراسه ولما فرغ منه ، قفز إلى الفراش مباشرة ونام ثلاثة أيام متواصلة . استيقظ بعدها وهو يبتسم بشده ، وطلب من أمي وطفة أن تعد عدتها للرحيل ، حيث كانت آخر المشاهدات لهم وهم يحزمون أمتعتهم وخيامهم !
أما (( سعدون البازعي )) والذي كان كثير السفر والترحال ، وبعد عودته من رحلاته الطويلة إلى بلاد ( الزيت الأسود ) – على حد وصفه – جمع أهل المرعى وبدأ يذكرهم بمليحان الذي صار صاحب ثروة كبيرة جدا هناك ، وأصبح نجما لامعا في عالم الرياضة ، وقال أنه يقود الآن احدى الفرق الرياضية ، حقق معها انتصارات عظيمة . وقال أيضا : أنه لم يستطع التحدث مع مليحان ، إذ أنه محاط بحراسات مشددة ، و بالمعجبين والمعجبات الذين يشكلون دائرة كبيرة حوله أينما سار . وقال أنه حضر إحدى الألعاب الرياضية التي برع بها ، وحين أظهر مهاراته وقدراته وتغلب على خصومه ، صفق له الجمهور تصفيقا حارا ، وهللوا باسمه .ورفعوا صوره .. حينها قام مليحان بالجري حول المضمار رافعا يديه للجمهور ، بعد أن ألقى سرواله على الأرض !!

انتهت
____________________________________



عندما رأيت زهور " الدافاديل "
في منتصف يناير
ادركت انك ابتسمت
هذا الصباح !

(( يغيب عن ذاكرتي صاحبها ))
رد مع اقتباس