الموضوع: الفيلسوف نعيم
عرض مشاركة واحدة
  #1 (permalink)  
قديم 31-10-2010, 23:51
الصورة الرمزية كاتب عمومي
كاتب عمومي كاتب عمومي غير متصل
كلما فهمت تعبت !
 
بداياتي : Aug 2009
الـ وطن : الرياض
المشاركات: 197
تقييم المستوى: 0
كاتب عمومي is an unknown quantity at this point
افتراضي الفيلسوف نعيم

( الفيلسوف نعيم )
قصة قصيرة
خليل الشريف 23/ 11/ 1431 هـ
.

بدأ الفيلسوف ( نعيم ) محاضرته أمام جمع كبير من المفكرين والأساتذة والطلبة قائلا :
لن أزعجكم في بداية حديثي عن الكيفية التي شكلت العقل الإنساني ، في بعض الحالات . حتى يصبح ممارسا للفلسفة . أي باحثا عن الحقيقة . إذا رغبنا في تضييق المعنى . إذ أن الحديث في مثل هذا الموضوع يعد شائكا لدرجة قد تأخذنا إلى جحيم فكري لا نملك الوقت أو الجهد ولا حتى الأدوات للخوض فيه . لكن فيما يغلب عليه الظن . وأؤكد على مفردة الظن ! أن هناك تصور سائد ومطروح عند عامة الناس ؛ وربما كان عند خاصتهم أيضا . مفاده أن عملية البحث عن الحقيقة ، تعد سمة إنسانية ذاتية . يؤدي بها العقل وظائفه العليا . ويقوم لأجل ذلك بالمهام الأكثر إلحاحا ، والأجدر أن تأخذ مكانها في رحلة الفكر الإنساني.
لكننا ، ومثل الكثير من الأمور التي نطلق عليها بأنها سمات إنسانية فطرية . لا نكاد نرى اتفاقا إنسانيا كاملا عليها ! كما يتفق البشر على فطرة الحب والخوف ، أو الجوع والميل الجنسي، أو الرغبة في التملك والسيطرة ، وأحيانا الرغبة للخضوع . بيد أنني أتساءل ؟ هل خرجت الفلسفة في يوم من أيام التاريخ . وأقصد بالتاريخ ؛ ما يبتدئ من هذه اللحظة التي ألقي فيها محاضرتي ، ثم يتنازل وحتى اليوم الأول للوجود البشري . عن صفوة الصفوة من أفراد نالوا قدرا هائلا من العلم ، وحظوا بما لم يحظى به غيرهم من الدراسة الجادة ، والفرصة للفهم ، والتأمل ؟
فإذا كان الجواب ؛ أنه لا وجود للفلسفة في أذهان الكادحين والمشغولين . ولا يهتم للحقيقة أولئك الذين يسعون كالمسعورين خلف الثروات والحكم والمكاسب السياسية . فأي معنى سيأخذنا إليه هذا الجواب ، غير أن هذه الحالة التي تصيب عقل القلة القليلة من الحضور البشري سواء القديم منه أو الحديث . والتي أطلقوا عليها عبارات رنانة يصعب التصادم معها مثل ( البحث عن الحقيقة ) أو( محبة الحكمة ) . هذه الحالة إذا خلصنا لمثل الإجابة السابقة . سنفهم عندئذ أن الفلسفة لم تكن في واقع الأمر سمة إنسانية إلا عند الفلاسفة والفلاسفة وحدهم !
ثم كيف لنا أيها الأعزاء . أن نفهم تلك الثقة التي كانت تطلقها كل جماعة فلسفية عن تصوراتهم وتفسيراتهم . ثم لا نلبث بعد فترة من الزمن أن نكتشف أخطاء رهيبة حول تلك التصورات والتفسيرات . يقف عليها مرة أخرى - ويا لنكته- فلاسفة جدد ! وليس فقط أولئك الذين يمتلكون أدوات البحث العلمي الصارمة ؛ والتي كانت هي الأخرى منتوج فكر فلسفي ، جعل من نفسه حصنا منيعا ضد أي فلاسفة جدد . حيث أخرج الفلسفة عبر أبواب البحث العلمي وأغلقها بإحكام . لكنها استطاعت بعد ذلك أن تدخل عليه عبر النوافذ !!

أيها الأعزاء ، إنني أحيي هذه العقول أمامي ، من الطلبة على الخصوص . هذه العقول المتعطشة للمعرفة . وأنا اليوم . إذ أنوي التوقف التام عن إلقاء المحاضرات أو المشاركة في أي ندوة علمية أو فكرية . لأسباب كثيرة ، قد يكون أهمها ما يتعلق بالوضع الصحي الذي يبدو أنني سأقبل عليه . أو بالأحرى الذي يظهر أنه سيقبل علي ! عند هذا المنعطف، أرى من واجبي أن أوجه هذه العقول الشابة الجريئة . أن تتوقف عن تلقي المعرفة بهذه الطريقة التي تجعل من أدمغتهم أشبه ما تكون بالكرات الصغيرة تتقاذفها أقدام الفلاسفة كما يتقاذف لاعبي كرة القدم تلك الكرة المستديرة بين أقدامهم !
إن تلقي المعرفة على هذا النحو يدفع العقل للوصول لمرحلة من التشتت والحيرة حتى يرضخ صاحبه باستسلام . ويقرر أن يضع عقله تحت قدم فيلسوف ما . وهذا بطبيعة الحال ، قرار لا بأس به إذا ما قورن بأن يبقى تحت طائلة مجموعة من الأقدام تركله من هذا إلى ذاك . وعند تلك اللحظة ؛ التي سيطمئن عندها المتلقي لرضوخه لعقل فلسفي واحد . سيحدوه الأمل والرغبة ألا يفكر هذا الفيلسوف الأخير، بركله من جديد نحو فيلسوف آخر . وتتجلى هذه الرغبة حين ترى من يدافع عن فلسفة ما ، تجاه فلسفة جديدة تريد أن تكسر عرى القديمة، بينما أتباعها يحرسون قلاعها بكل استبسال . ومثل هذا الأمل ، وهذه الرغبة ، أبعد ما تكون عن الممكن في عالم الفلسفة . لأنه عالم صنعه الفلاسفة . وهم أكثر من يهمهم أن تكون الحقيقة ذات طابع معقد مركب وعميق جدا . إنهم يحولنها إلى شيء أشبه بالسراب . تسعى خلفه لكنك لا تصل إليه . وهكذا يفترض أن يستمر الركض للحاق بالحقيقة . إذ أنه متى ما تم الوصول إليها؛ فماذا سيبقى للفلاسفة أن يفعلوه ؟؟
ولا عجب أن هذه الحيرة . وذلك التشتت جعل كثير منهم يفضي إلى نهايات كنت أتابعها باستغراب وتوجس . إنها نهايات محيرة وغاية في الغرابة وأحيانا السخف ! وإذا ما نظرنا لفلاسفة العصر القديم . فالفيلسوف ذيوجانس – على سبيل المثال - طلب أن يدفن على رأسه ! إيمانا منه أن العالم سينقلب . فإذا انقلب صار واقفا على قدميه ! والفيلسوف الشهير أرسطو ألقى بنفسه في البحر عندما عجز عن تفسير سبب التيارات البحرية ولماذا تتغير في اليوم الواحد عشرين مرة ! والفيلسوف هرقلطيس غطى نفسه بروث البقر حتى مات ! والفيلسوف زينون قطع أحد أصابعه عندما بلغ التسعين ؛ وراح ينزف ثم يدق الأرض بقدميه ويديه مرددا بيتا من الشعر القديم يقول : جئت إلى هنا ، فلماذا أتيت بي ؟ أما المفكر الروماني برجرينوس أشعل نارا ضخمة وراح يدور حولها وأبدى إعجابه الشديد بأصواتها وألوانها ثم ألقى نفسه فيها !

أما ما يتعلق بفلاسفة العصر الحديث . يكفي أن نقول أن الفيلسوف الألماني نيتشه ، وفي آخر حياته ، لم يتمكن من النوم لفترة طويلة جدا . حتى أصيب بالجنون التام . والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو قرر أن يطبق فلسفته التي تقضي بأن الإنسان مات بمجرد التزامه بوطن وهوية ومجتمع وتقاليد وأخلاق . فخاض في انحرافات أخلاقية فظيعة . وتحرر من كل القيود والأعراف . وانضم إلى مجموعة من الشاذين في سان فرانسيسكو بأمريكا . مما أدى إلى إصابته بمرض بالايدز ومات على إثره . أما الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز والفيلسوف اليهودي فالتر بنيامين فقد قررا إنهاء حياتهما بالانتحار ! والأمثلة حول هذا الموضوع كثيرة ، ويصعب حصرها .."
عند هذه العبارة تنفس الفيلسوف نعيم بعمق ، وأسند ظهره على المقعد ورفع يده شيئا يسيرا إلى الأعلى ثم قال:"إلى هنا وأتوقف."
ارتسمت الدهشة بشكل واضح على الحضور . وارتفعت أيدي كثير منهم- الطلبة منهم على وجه الخصوص - مبدين حماسة شديدة لطرح آرائهم وأسئلتهم حول ما ذكره الفيلسوف . لكنه قرر ألا يستمع إلا لسؤال واحد متذرعا بضيق الوقت ، فأشار لشابة حسناء طويلة ، لها شعر ناعم قصير لا يتعدى كتفيها. قامت وعدلت هيئتها ثم قالت بصوت دافئ ونبرة هادئة :
- ألست الفيلسوف نعيم ؟
ظهرت جلبة خفيفة بين الحضور . وقبل أن يرد الفيلسوف ابتسم بطريقة خجولة . لكن عينيه بدأت تتسع وتحدق نحو الفتاة بشكل ثابت . قال :
هذا اللقب أيتها الشابة كلفني الكثير في مسيرة حياتي . ولقد كانت لحظة فارقة ومهمة حين قررت أن أتخفف منه الآن . ويمكن أن يكون هذا بمثابة الشعر الذي ازداد جمالا حول وجهك حين قررتِ التخلص من جزء ليس بالقليل منه .
صفق الحضور بقوة . بينما ضاعت الشابة في نشوة من الخجل بدت عليها دون أن تحاول إخفاءها . ونهض الفيلسوف عن مقعده وهو لا يزال ينظر للفتاة . ولما حيا الجمهور بتحية متواضعة أخذ بيد زميله في منصة الإلقاء ومضى وإياه من باب خلفي للقاعة الكبيرة ، وكانت تلك محاضرته الأخيرة كما وعد .
____________________________________



عندما رأيت زهور " الدافاديل "
في منتصف يناير
ادركت انك ابتسمت
هذا الصباح !

(( يغيب عن ذاكرتي صاحبها ))
رد مع اقتباس