الموضوع: أصبحت حاسدا ً
عرض مشاركة واحدة
  #1 (permalink)  
قديم 19-11-2010, 21:03
الصورة الرمزية كاتب عمومي
كاتب عمومي كاتب عمومي غير متصل
كلما فهمت تعبت !
 
بداياتي : Aug 2009
الـ وطن : الرياض
المشاركات: 197
تقييم المستوى: 0
كاتب عمومي is an unknown quantity at this point
افتراضي أصبحت حاسدا ً

أصبحت حاسدا
قصة قصيرة ،
خليل الشريف
6 / 12 / 1431هـ


في إحدى المرات التي استيقظت فيها مثقلا بالنوم والوجع . و بعد أن كررت عيناي تلك الاغماضات السريعة المتتالية واللاإرادية ، وجدت أنني أمتلك رغبة عارمة للحسد !. ظننت في أول الأمر أنه مجرد شعور عرضي . نابع من حلم سيء لعله خالط عقلي الباطن أثناء النوم . لكنني بعد أن دخلت الحمام . وقمت بواجبات الحمام المعتادة . ثم تناولت إفطاري وشربت قهوتي . تأكدت أنني لاأزال أرغب في الحسد . بل إنني أشعر وكأنني امتلكت هذه الموهبة دون مقدمات !
نعم . بلا عجب . لقد صرت حاسدا . ويمكنني الآن أن أنشغل كثيرا عن التفكير في الأحداث السياسية التي تزعجنا بها الأخبار يوميا . وأن أتخلص من أعباء الثقافة التي تصور لنا الحياة على أنها مجرد معاناة ينبغي توثيقها ليس إلا . ويمكنني الآن التركيز أكثر على ما يدور حولي من مواقف وشخصيات . أن أركز على اللحظة الراهنة بالتحديد .

لست معنيا بما يحاك ضد الحاسد من أساطير وحكايات، ولست مهتما إذا كنت قادرا على الإطاحة بالطيور التي تحلق في السماء الواسعة ، وسأكون أكثر صراحة إذا قلت أنني لا أؤمن لا من قريب ولا من بعيد بأن عين الإنسان المجردة يمكن أن تفعل الأعاجيب في الموجودات الحسية .
لكنني أستطيع أن أؤكد لكم أن هناك شعورا يمضي في عروقي الآن ، ويمتزج مع دمي ، ويأخذ دورته في جسدي ؛ وكأنه مصل سحري يتسلل إلى الخلايا ، ثم يتماهى بعد ذلك مع الروح في التحام لا انفكاك بعده !
هذا الشعور لا تقتصر علاقته بالعين الناظرة إلى المحسود .. والذين يعتقدون أن العين هي الوسيلة الوحيدة للحسد . لا يفهمون كيف تتحرك تلك المشاعر داخل الحاسد . إن الحسد قضية شعورية باطنية ولا ينبغي اختزالها في العين المجردة . لقد أثبت التاريخ الشعبي قصصا كثيرة حول أنماط خطيرة من الحاسدين ، لم يكونوا يمتلكون القدر الكافي من قوة البصر لرؤية 20 مترا أمام أعينهم . بل ليس غريبا أن يكون الأعمى حاسدا محترفا ! فالأعمى كغيره من البشر . لديه الاستعداد الذاتي للاستيقاظ يوم ما وقد صار حاسداً ! إن البشر دوناً عن المخلوقات الأخرى ؛ الأكثر مقدرة للقيام بمثل هذا الدور على أتم وجه . وهذا يفسر دوافع الجريمة الأولى على وجه الأرض، إذ كانت على يد إنسان حاسد !

إنني لن أفوت هذا الصباح الأول لي مع هذا الشعور الممتع . ولعل الأجدر بي أن أختبر قدرتي على الحسد الآن بينما أحيي جاري البغيض الذي يجلس بجواري داخل سيارته الفارهة .
قلت في نفسي في اللحظة التي لوحت بيدي لتحيته " من المفترض أن تركب حمارا أجربا فضلا أن تقود سيارة تتعدى قيمتها المائتين ألف ريال !!"
إنني أحسده بالفعل ، وأتمنى لو أنني رأيته يقف بجوار سيارته وقد تحولت إلى كومة من حديد ! جيد إذن ، لعل هذه بداية موفقة!
لقد قررت أن أمضي ما تبقى لي من الحياة حاسدا . إنه أمر جاد ، ويملؤك بالقوة ! أن تدخل إلى عملك – كما أفعل الآن – وتبتسم لرئيسك وفيما توقع للحضور ؛ يصرخ في داخلك السؤال الأزلي للحاسدين ( لم تجلس في هذا المكان أيها القزم ولا أجلس أنا ؟) وفي اللحظة التي أدير له ظهري ، ستصدح الإجابة مباشرة من ذلك المصل الأصفر المشوب بالسواد في دمي ( أنا أحق من هذا الأبله بهذا المكان !) .. هاهي نار الحسد تتأجج في دمي . هذا تطبيق ممتاز .. مزيد من الحقد .. ضغينة أكبر ، وسأكون أكثر احترافية !

ماذا عن الأصدقاء ؟ هل ستظل نظرتي للصداقة سطحية وبلهاء ؟ هل سأكتفي ، بكل سذاجة . كي أنظر للصديق على أنه الشخص الذي تقضي معه أجمل لحظات وقتك ؟ بالطبع ستتغير هذه المشاعر الطفولية . لأنني ولابد ؛ سأدقق النظر في التفاصيل . سأكون أكثر تركيزاً . الملاحظة أولا ، ومن ثم المقارنة بعد ذلك . ما الذي لديه وليس لدي ؟ وما الذي لدي وليس لديه .؟ وسأحارب حتى أكون المتفوق في غالب التفاصيل . أوليس هذا شعورا يدفع الإنسان ليكون أفضل ؟ أوليس الحسد صفة تجعل الإنسان أكثر نجاحا وتطورا ً ؟

قلت في نفسي وأنا أعد تقريرا مع صديقي سعيد وكنا نتكلم عن ترقيته المتوقعة قريبا :
"ماذا تريد يا سعيد ؟ أنت لا تكتفي أن تتبختر بجسمك العريض القوي أمامي كل يوم . وتسألني بكل قذارة هل بدأت "الريجيم " يا حمدان ؟ ثم تبدأ بإخراج جهازك المحمول وهاتفك النقال الحديث . وبعد أن تلف رأسك بأمتار من الأسلاك النحيلة السوداء . وتلبس نظارتك الصغيرة . ومن تحت بروازها المستطيل الرقيق . تنظر إلي و تحدثني عن ترقيتك المتوقعة !! أيها الحشرة المتشكلة في صورة إنسان . وددت لو أنني أحرقك بكل مبيدات الدنيا . وأن أدوسك كما يسحق صرصور مزعج في دورة مياه .. إنني أتجاوزك بمراحل . لكن شيء ما كان خطأ ً، جعلك تحظى بهذا كله . على الرغم أنني لست مهتما لأمرك . وأنك في الوقت نفسه صديقي المثير في نفسي الحسد . الشعور الذي سيجعلني يوما ما أتفوق عليك ، وأكلمك وأنا أضم مابين حاجبي ؛ وكأنني أشم رائحة كريهة !"

وماذا بعد .. ؟ لن أتوقف عن هذا الحد . الحاسد المحترف يتفنن في إظهار أفضل ما لديه وفي الوقت ذاته . إظهار أسوأ ما لدى الآخرين . هكذا في وقت واحد . الأفضل هنا ( وأشير إلى شخصي ) والأسوأ هناك ( وأشير إلى من هم جواري ) ليس هناك من هو أحق مني بأن يكون بارزا وناجحا وقادرا على تحقيق المكاسب دائما ً. وعلى هذا الأساس يتفاوت الناس في حظوظهم . ليس فقط لأن هناك أذكياء وأغبياء ، أو أن هناك أقوياء وضعفاء . بل في الدرجة الأولى لأن هناك حاسدين وغير حاسدين !

إن الحاسد . شخص قادر على السيطرة دائماً . قادر على بسط النفوذ والهيمنة . فهو شخصية ميكافيلية مراوغة يمكنها أن تأسر الخصم بجاذبيتها أحياناً . ثم ما تلبث أن تلتهمها في اللحظة المناسبة . إنه يمتلك عقلية مركبة تحوي مجموعة متمازجة من الفلسفات الحديثة والقديمة . يمكن وصفه بالواقعي والنفعي والمادي والعدمي والعلماني والطبيعي . كثير من الفلسفات تتلخص في سلوك الحاسد . الإنسان المتحضر والمتفاعل مع متغيرات العالم من حوله .
إنني أحترم الرئيس الحاسد في أي موقع . وأقدر الطريقة التي يحاول بها تكسير رؤوس موظفيه حتى يبقى بمأمن عن بروز أحدهم فوقه . تلك هي القوة الحقيقة للرئيس الحقيقي .

إنني أحيي الحاكم الحاسد في أي بلد على وجه الأرض ، ولا أجد أي غرابة إذا ما كان ينهب ثروات البلد الذي يحكمه . وأن يحول سكانه إلى رعاع لا يرون إلا ما يرى ولا يسمعون إلا ما يسمع . إن الحاكم الحاسد . شخصية تستحق التأمل والمتابعة . ومن ثم َّ استخراج المعنى المتمثل في تشكلها . إنه شخص قادر على أن يستمر في الحكم عشرات السنين دون أي مقاومة تذكر ! شخص حاضر بقوة مخيفة . لا يمكن أن يسمح لأي فرد من الشعب ضمن أي طبقة من طبقاته ؛ أن يكون أفضل أو أغنى منه . الحاكم الحاسد لا يستطيع أن يتخيل للحظة . أن هناك مخلوقا ما ، يمكن أن يأخذ مكانه . ويحظى بالامتيازات المطلقة التي يحظى بها . إنه على استعداد أن يموت ألف مرة ، أو يحرق الشعب عن بكرة أبيه . على أن تأتي تلك اللحظة التي يرى فيها إنسان آخر يتربع فوق عرشه . وفي سبيل هذا العرش . يستحوذ على كل شيء . على الممتلكات . على الحريات . على الناس ،على العقول . إن مشاعر الحسد تخلق في داخله شخصية معقدة جدا . مركبة جدا . شخصية تركز على نفسها ، وتشبع نهمها للبروز المتكرر المطلق فوق الآخرين . وبالتالي تبقى ؛ بينما ينتهي الآخرون . حتى ليصبح هذا الحاكم المدار لكل شيء ، الغاية لكل هدف ، المحصلة لكل مشروع ، المنتهى لكل عمل ! وعند هذا المستوى الذي لا يستطيع تحقيقه إلا الحاكم الحاسد . يمتد النفوذ ويستمر ، ويتجذر في أعماق الناس إلى الأبد .
حتى الدول تحسد بعضها بعضا . وهي تعلن ذلك بكل صراحة ووضوح . وتتمنى كل أمة أن تنهض وأن تتأخر الأمم الأخرى . وهذا الصراع المحموم بين الدول العظمى وغير العظمى على الثروات ، والذي لم يعر الطبيعة أو الإنسان أي اهتمام ؛ ما هو إلا ترجمة للغة الحسد التي تجعل الأنظمة تتسابق وتتصارع بحثا عن التفوق والسيطرة . إن بقاء أي نظام مرهون بقوته على حسد الأنظمة الأخرى ، وكذلك بضعف أنظمة أخرى عن حسد الآخرين وهكذا ..

كيف يمكن أن نفهم الحسد دون أن نربطه بالواقع الذي نعيشه . ودون أن نربطه بمن يمارسونه بيننا ، ويجنون هذه النتائج التي لا يحلم بها مجرد الحلم . من يضيعون أعمارهم وهم يحاولون الإثبات لأنفسهم وللآخرين من حولهم أنهم قنوعين ، وأنهم لا يهتمون إن حصلوا على ما يحصل عليه الآخرين . لعمري . إنهم في حقيقة الأمر . مجموعة من الفاشلين الذين لا تعترف بهم الحياة أبداً .. وماذا يكلف الحسد على الحاسد . إن عملية الحسد لا تحتاج إلى وساطة أو جهد . ولا تكلف الحاسد أي تكاليف مادية على الإطلاق . كما أنها عملية سهلة ويسيرة وليست ظاهرة على السطح حتى ينتقدها الناس . كما أنها لا تحتاج إلى علم نظري معقد . إنها تحتاج إلى القناعة والتدرب والتطبيق المباشر . أما عن الأعراض الصحية التي قد تطال الحاسد فليست بالضرورة أن تكون ملازمة . وربما كانت منتشرة في الأفراد غير الحاسدين أكثر . إن أمراض مثل السكر وارتفاع ضغط الدم ، وانسداد الشرايين ، والاكتئاب والهوس ، والقرحة ، والتهاب القولون العصبي، والهزال ، والسمنة المفرطة ، والإجهاد ، والقلق ، والاضطرابات الذهنية، وجنون العظمة .. أعراض قد تتواجد في حياة الحاسد وفي حياة غير الحاسد . وإذا سلمنا أن الحاسد أكثر عرضة للإصابة بها ؛ فلا بأس ! إذا ما قورن ذلك بالنتائج التي سيحققها . فحياة الإنسان تقاس بالنتائج ، ولا تهم الأمراض التي تلحق به مقابل النتائج التي يحققها .

لقد كانت اللحظة الفارقة في حياتي . تلك الساعة التي استيقظت فيها وأنا أمتلك قدراً كافيا ً للقيام بمهمات الحاسد . ولعلي مع الوقت . أستطيع أن أحترف هذا الدور بشكل كامل . وأن أدخل ضمن دوامة الحسد العالمية . وأن أكون مستعداً لأعلى سلطة يمكن أن تهديها لي الحياة .
____________________________________



عندما رأيت زهور " الدافاديل "
في منتصف يناير
ادركت انك ابتسمت
هذا الصباح !

(( يغيب عن ذاكرتي صاحبها ))
رد مع اقتباس